فيما تحفل مواقع الانترنيت بعشرات المقالات عن مطالبة اليهود العراقيين الحكومة العراقية بدفع تعويضات تقدر بالبلايين من الدولارات يستعيد الباحثون في البصرة حياة سكانها اليهود قبل قرابة قرن من الزمن،وتحولات المدينة من حاضرة تضم الجميع وتقبل ساكنيها علي أساس المحبة والحاجة والتسامح إلي مدينة لا تستطيع الدولة فيها استرداد مقبرة من قبضة متجاوز .وتتعدد الحكايات عن هجرة اليهود في العراق. لكن، هناك حكاية عراقية تقول أنه وقبل أن يترك بيته نهائيا، مغادرا إلي دولة إسرائيل عام 1952خط بنامين أسحق اليهودي العراقي ذو الستين عاما ،الذي كان يسكن محلة الباشا بالبصرة القديمة 4 كلم عن مركز المدينة ،خط علي جدار بيته الذي هو مغادره بيتا من الشعر الشعبي قال فيه :
عاوني علي الروح نجرها يا المار ما ترضي عنها تروح محرجة بالدار
وواضح أن إسحق كان يتوسل بالناس المارين قرب داره أن يعينوه علي إخراج جسده وروحه التي لا تسع الباب لخروجها في إشارة لكلمة محرجة،أي ضاقت الباب عن خروجها،وهي إشارة إلي صعوبة تركه البلاد التي ولد وترعرع فيها،بل كان يفضل أن يدفن فيها ميتا علي الخروج منها حيا .
12 ألف يهودي في البصرة
وإذا كان المؤرخ البغدادي صبغة الله الحيدري قد أحصي عدد اليهود في البصرة نهاية القرن التاسع عشر بأكثر من 12 ألف فإن إحسان السامرائي (باحث ومؤرخ بصري ) يقول للقبس: هناك العشرات من الشخصيات اليهودية البصرية التي تركت بصماتها علي دنيا المال والاقتصاد والفكر والثقافة والمجتمع بشكل عام في البصرة بل ولا زالت الشواهد حية في سجلات الدولة العراقية وأرشيفها الرسمي ،فهم عراقيون علي أي حال بحسب تعبيره.وكانت الفترة المحصورة بين النصف الأخير من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر البصرة تمثل الزمن الذهبي للانتعاش المالي والاقتصادي للطبقة الارستقراطية،إذ يقول البروفيسور حميد احمد الحمداني-أستاذ مادة التأريخ في جامعة البصرة :إن طائفة اليهود العراقيين هم من أقدم الطوائف اليهودية في العالم ،وهم من الذين استقدمهم الملك نبوخذ نصر في العهد البابلي،ولنفوذهم القوي في البصرة في فترة العشرينات أشرك البعض منهم مثل يوسف يعقوب صوينخ في قائمة الشخصيات البصرية التي طالبت بانفصال البصرة عن العراق في العشرينات من القرن الماضي،وكذلك شارك البعض منهم في الهدية المقدمة من أكابر الشخصيات البصرية للملك فيصل الثاني ، كما ساهم كبار التجار اليهود ببناء مستشفي الملك فيصل (الجمهوري فيما بعد) في البصرة وكذلك مستشفي السجن المركزي وتضم المقبرة (مقبرة اليهود) رفات المئات من الشخصيات فيها.الملك فيصل الاول بمدرسة لورا خضوري.
الشناشيل بصرية يهودية ورئيس الاستئناف يهودي
وتكاد حركة البناء وبيوت الشناشيل المعروفة اليوم بالبيوت التراثية في محلات القبلة القديمة والباشا ونظران والسيمر والفرسي والمجصة وجامع أبو منارتين والمحال المحيطة بالبصرة القديمة والعشار.. وغيرها والتي لا تزال ماثلة حتي اليوم أن تكون من أعمال البيوتات والأسر اليهودية البصرية، وحتي مبني منتدي المسرح في البصرة( بيت الشيخ خزعل الكعبي) أمير المحمرة، الذي تجاوزت عليه إحدي الكيانات السياسية عقب سقوط بغداد في 2003 كان ملكاليوسف كارح، وقدعرفت المسناة التي تقابله بدكة بيتيوسف كارح،وظل بشناشيله وبنائه المتين المطل علي حركة الماءفي المد والجز،ودكته المشهورة كاستراحة للشباب سنوات وسنوات، قبل أن يهدم عام1999 ليتحوّل إلي خرابة ومزبلة بعدما كان واحدا من أجمل أماكن المدينة.وحتي وقت قريب ( 1920) يقولالسامرائي :كانت جدران محكمة الاستئناف الكائنة في محلة السيمر علي نهر العشار بالبصرة القديمة تصطك علي صوت رئيس المحكمة نعيم زلخة ،وهو ينادي علي المتهمين أو روبين بطاطنائب رئيس محكمة البداءة ساعة المناداة على المحاميين إ براهيم شاؤول ومنشي إسحق ( كانا ضمن أول دفعة محامين تخرجت عام 1911 ) وسواهم من المحامين البصريين اليهود.ولعلنا لا نجد اليوم في أروقة محكمة الاستئناف ما يشير لذلك
أدباء وكتاب وأطباء يهود
ويضيف:لكن الذين أنعم عليهم الله بطول العمر يتذكرون أيضا نخبة من الأدباء والكتاب والأطباء والصيادلة والموسيقيين بينهم :الأديب داود سيزائي،عزرا يامين،نسيم روبين،صالح حسقيل، الصيدلي سليم عاشير، جو وعيسي عيسائي،سالم عابد،آغا بابا موشي حي،يعقوب نواح،إبراهيم حسقيل،عزرا نواح، صيون روبين، موشي طويق،بيت اطرفجي،الياهو إبراهيم جداع،بيت لاوي، شفيق عدس،بيت خرموش، صالح رحميم،بيت زبيدة… وغيرهم .
ويعتبر بيت موشي طويق القريب من خزان الماء في شارع بشار بن برد آخر بيوت الشناشيل التي بنيت سنة 1941 ولا زال ماثلا اليوم كمبني يضم مكاتب وعيادات للأطباء والمحامين. وقبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921 كان التجار اليهود في شارع الكنائس بالعشار (الصيادلة اليوم) المتفرع من سوق الهنود سادة دنيا المال وأكابر الناس في التجارة والأملاك وتداول النقود وحين يعدد الباحث السامرائي أسماءهم لا يتوقف عند :
إبراهيم حسقيل، إبراهيم كرجي، الياهو روفائيل، الياهو يوسف، خضوري الياهو شماش، دانيال حسقيل، ساسون رحمين، سليم نسيم، صيون روبين، صيون يونا، مراد عبودي، مير سبتي، ناجي شاؤول، نسيم عزرا نسيم…. وحين سألته عن المقبرة الكائنة في منطقة السعدونية بالمشراق 5 كلم عن مركز المدينة اليوم يقول : هنا كان يدفن اليهود موتاهم لكنها اليوم أصبحت جزءا من المدينة فقد بني الناس (الحواسم) بيوتهم علي القبور،وبذلك إمحت قبور كبار الشخصيات التي شكلت جانبا مهما
البصرة العشار 1920
نزح السكان فأزاحوا قبور اليهود
وكانت القبس قد اتصلت بالسيد أحمد الياسري رئيس لجنة رفع التجاوزات في المحافظة وسألته عن حال مقبرة اليهود المتجاوز عليها من قبل عشرات الأسر التي دخلت البصرة بعد حرب تحرير العراق في ربيع 2003 فقال: عانيت شخصيا الأمرين في قضية المقبرة هذه ،ووجهت لي التهم والتهديدات وكتبوا ضدي بمواقع الإنترنيت حين حاولت إعادتها لواقع حالها كمقبرة تاريخية،لكن المشكلة أكبر من ذلك يقول الياسري إذ هدم المتجاوزون القبور ونبشوها، وتطايرت عظام الموتي،وخلال السنوات القادمة لن يكون بمقدور أحد التعرف علي معلم المكان،ولا تتعلق القضية بمقبرة اليهود هذه فحسب فمقبرة الصابئة في منطقة خمسة ميل أيضا تعرضت للتجاوز وكذلك مقبرة المسيحيين في المطيحة ولولا السياج الحديدي الذي يحيط بمقبرة الانجليز في الحكيمية ورعايتها من قبل وزارة الخارجية لأصبح حالها كغيرها من المقابر
اليهود في مرقد النبي كفل
هجروه من البصرة فاختار لند ن علي إسرائيل
وينقل الباحث السامرائي عن أحدهم فيقول :تحدث الدكتورهارون شماش (اليهودي البصري المقيم في لندن) عن طفولته في البصرة، وعن محلة السِيف وعن أخوته وأشقائه ساسون وحسقيل وغيرهم وزوجات أبيه الثلاث وأصدقائه, حيث يذكر أن أحد أشقائه تعرض مرة إلي اعتداء من قبل ابن “باقر الاوتجي” الذي يبدو أنه أصاب إحدي عينيه إصابة مباشرة، إلا أن أباه رفض أن يشتكي للشرطة، قائلا لرجال المحلة الذين خفوا للتعاطف معه بأن مثل ذلكيقع بين الأخوان ولا ضرورة للشكوي..!! ويضيف شماش:رفض أبي الذهاب إلي إسرائيل، كما رفضت الأسرة ذلك فاستقر بنا المقام في لندن، وكان أبي يردد دائما :
نحن يهود عراقيون و”بصاروه”..!! ولا علاقة لنا بإسرائيل.
ويؤكد :بأن أباه ظل حتي موته يتذكر موطنه وأصدقاءه، ويحلم بالجلوس علي إحدي مصطبات مقهي هاتف ( الشناشيل) اليوم في محلة السِيف كما كان في السابق، ّويتحسس بيده ليونة الحصران التي علي مصطبات المقهي، ويشم رائحة التراب والغبار المتصاعد من الأرض حين يرش ّالسَّقاء دروبها بالماء المنقول من نهر العشار ،أو يشرب الماء من “الحِب” بالطاسة ويتذوق ماء المد المندفع من شط العرب .ويعقب