You are currently viewing الاسلام دين انساني

الاسلام دين انساني

انسنة الحياة
محمد عبد الجبار الشبوط
لا يمكن للمجتمع، اي مجتمع، ان يحقق النهوض الحضاري والقضاء على التخلف، قبل ان يحقق انسنة الحياة في مختلف مجالاتها وحقولها. وقد دلت التجارب الحضارية التاريخية الكبرى واخرها النهضة الاوروبية على صدق هذه المقولة حيث بدات حركة النهضة في القرن الرابع عشر باعادة الاعتبار الى الانسان واحترام كرامته و اعلاء شأن فصائله، مع ظهور بترارك (١٣٠٤-١٣٧٤). ان الانسنة تعني اعتبار الانسان هدفا وغاية بحد ذاته بحيث تكون السياسة والحكم والدين والاقتصاد في خدمة الانسان وسعادته وليس العكس.
حين نستخدم مفردة “التخلف” فاننا نعني بها ذلك الخلل الحاد الذي يصيب #المركب_الحضاري والقيم الحافة والمصاحبة له.والمركب الحضاري يتألف من خمسة عناصر اولها الانسان، ثم الطبيعة والزمن والعلم والعمل. والانسان يلعب الدور المحوري في هذا المركب. واي برنامج تنموي للنهوض والقضاء على التخلف يجب ان يبدأ من الانسان، وانسنة مختلف جوانب الحياة. وتشمل الانسنة، على سبيل التمثيل وليس على سبيل الحصر: كرامة الانسان وقيمته العليا، وحقوق الانسان، وانسنة الدين، وانسنة الاقتصاد، وانسنة العلاقات الاجتماعية
لا يمكن القضاء على التخلف دون اعلان كرامة الانسان. وهذا اول ما تفعله الاديان السماوية عادة، لانها تبدأ بالانسان نفسه: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً”.واول من يعتدي على كرامة بني ادم هو الانسان نفسه، بغيا وجهلا وعدوانا، وهذا قمة الفساد “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ”. وقمة الكرامة الانسانية جعله خليفة عن الله في الارض: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”.
وكرامة الانسان تتحقق من خلال احترام منظومة حقوق الانسان التي نصت عليها الاديان السماوية ثم اصبحت جزءً من الشرعة الدولية التي اقرتها الامم المتحدة.
وحين نزج بالدين في معركة الانسنة، وهذه هي الخطوة الثانية، فذلك لان الدين، وهو الاسلام على وجه الخصوص، يلعب دورا كبيرا في توجيه سلوك الانسان وعلاقته ومواقفه في المجتمع العراقي. وما دام الامر على هذه الشاكلة، فاننا امام خيارين: اما ان نبعد الدين عن حركة النهضة، وقد برهنت التجارب السابقة في العالم الاسلامي ان هذه الخطوة تخلق من المشاكل اكثر مما تقدم من الحلول. فلا نعيدها في العراق ونحن ندعو الى فتح المعركة الحضارية من اجل التقدم والتنمية والقضاء على التخلف. او ان ناخذ بالخيار الثاني، وهو انسنة الدين وتوظيف قيمه الانسانية من اجل النهوض الحضاري، واصلاح الخلل في المركب الحضاري، وذلك انطلاقا من الفهم الحضاري الانساني للدين، بما في ذلك النظرة الايجابية للانسان والايمان بقدرته على فعل الخير بما اودع الله فيه من عناصر الصلاح والاستقامة وعلى راسها العقل المرشد الى الصلاح.
وهذا يتطلب التمييز بين الانسنة والاسلمة واعتبار الاولى مقدمة على الثانية، ان كان لابد من الثانية. لقد برهنت الخبرة التاريخية على ان التخلف الحضاري من اخطر العوامل على الدين وعلى التدين، وان التدين في محيط اجتماعي متخلف يؤدي الى انتاج دين شعبي متخلف يحول الدين الى عامل اعاقة عن النهوض الحضاري، والى “اسلمة التخلف” الامر الذي ينتهي بالمجتمع الى الهزيمة في المعركة ضد التخلف من جهة، وعدم القدرة على الاستفادة من الممكنات الحضارية والنهضوية التي يختزنها الدين من جهة اخرى.
كما يتعين زج التربية والتعليم في المعركة الحضارية وذلك بانسنة العملية التربوية عبر نظام تربوي يستهدف ايجاد الانسان الصالح الفعال المتحضر، من خلال مناهج دراسية تنطلق من الرؤية الانسانية للحياة.
حول مفهوم انسنة الحياة
استخدم كلمة “الانسنة”، او انسنة الحياة، واحيانا “النزعة الانسانية”، بما يقابل كلمة humanization الانگليزية وليس كلمة Humanism.
ترد كلمة Humanism في القواميس الفلسفية والسياسية كمصطلح فلسفي اختلف بل تنوع الكتاب في بيان معناه ودلالته، لكنهم يرجعونه الى معنى واحد اساسي هو مركزية الانسان، وغالبا ما يعطونه معنى مقابلا للدين او لله. ولا شك عندي انه بدأ في ايطاليا وان اول من زرع بذرته هو الشاعر بترارك المعروف. وهناك من يرى ان هذه النزعة هي من نتائج الاحتكاك الاوروبي الاسلامي، سواء في الحروب الصليبية ام في الاندلس. ولست معنيا بما يقوله كل فيلسوف او مفكر او كاتب عما يعنيه مصطلح Humanism بالنسبة له الا بمقدار ما يلتقي او يختلف بما اعنيه من كلمة انسنة الحياة او النزعة الانسانية كما في كلمة humanization.
دعوتي الى انسنة الحياة او النزعة الانسانية ليست مرتبطة بهذه التطورات الا بمعناها العام ودلالاتها الكلية التي سوف ابينها في السطور التالية.
انسنة الحياة عندي هي كلمة عربية اصيلة على وزن (فعلله) وليست مصطلحا فلسفيا، وهي تصلح ان تكون ترجمة للكلمة الانگليزية humanization، المشتقة من الفعل humanize، والذي يعني جعل (الموضوع)، اي موضوع، انسانيا، اي اضفاء الصفات الانسانية على (الموضوع). والموضوع هنا هو الحياة نفسها التي قوامها الانسان، بوصفه العنصر الاول في #المركب_الحضاري. انسنة الحياة هنا ليست مصطلحا فلسفيا بقدر ما هي عملية مستمرة process لاصفاء الصفات بل الشروط الانسانية على الحياة، بمعنى جعل الحياة لائقة للانسان، بما فيها من كرامة وحرية وامل الخ، ومحققةً لشروط نمائه وتكامله في خط انسانيته.
انسنة الانسان، بوصفه كائنا عاقلا، هي نقطة البدء في انسنة الحياة، التي تمتد الى الثقافة والفن والدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية الخ. والعقل هو الحجر الاساس في انسنة الانسان. وبالعقل امتلك الانسان الصفات او الخصائص التي تميزه عن الحيوان او ترفع درجته على درجة الحيوان، بما في ذلك اللغة والتواصل والتفكير والمشاعر الرفيعة الخ، وهي ما فطر (اي خلق) اللهُ الانسانَ عليها، او اوجدها في الانسان وجعل فيه القابلية على صنع الخير.
ولهذه الصفات وبسببها اعلن الله تكريم الانسان و استخلافه وتحريره واعطاءه حرية الاختيار واعتبره مسؤولا وامر الملائكة بالسجود له وسخر الكون له وجعل التشريع يدور مدار مصلحته.
وحين احيل الامر الى الله فاني اعلن ان انسنة الحياة لا تقف في مواجهة الله، ولا تعلن موته، بل تستمد مركزية الانسان من مركزية الله.
وحين احيل الامر الى الله، فاني اعلن ضمنا مرجعية كتبه في استلهام معنى ومضمون ودلالات انسنة الحياة، وبخاصة القران الذي جعله الله مصدقا لما بين يديه من كتبه ومهيمنا عليها.
وهذه الاحالة لا ينبغي ان تزعج الذين يؤمنون بالهة اخرى من العلمانيين وغيرهم، لان لكل انسان طريقه في الاقتناع بمفهوم انسنة الحياة، وتحسين نوعيتها ودرجة رقيها، وهذا هو هدف مشترك لكل البشر. ما دام الهدف واحدا، فان الحياة لا تمنع من تعدد طرق الوصول اليه.
لكن هذه الاحالة مشروطة بالفهم الحضاري والانساني للدين، ولهذا فهي ترفض الممارسات والتصورات الشعبية المنسوبة للدين، او التفسيرات المتشددة والمغلقة لنصوصه، والتوحش في تطبيقها (على طريقة داعش، وكل المتطرفين امثالها من اي مذهب كانوا)؛ مشروطة بانسنة الدين نفسه، اي ابراز النزعة الانسانية والحضارية في الدين، تلك النزعة التي يمكن ان نستلهم منها، ومن غيرها مما قد لا نجده فيها، القيم الحضارية العليا الحافة بالمركب الحضاري. ونحن في نهاية المطاف نسعى الى تشغيل المركب الحضاري بالطريقة المنتجة للحضارة في خطها التصاعدي المؤدي دائما الى تحسين نوعية ومستوى الحياة بالنسبة للانسان.وليس في هذا ما يحول بيننا وبين الانفتاح العقلي والانساني والحضاري على حركة الفكر البشري والاستفادة منها عبر حوار الحضارات في بناء القيم الحضارية العليا المشتركة.
وبهذا كله، تكون اطروحة الدولة الحضارية الحديثة هي الاطار العام الذي تتحقق فيه انسنة الحياة باعلى درجة حققتها البشرية حتى الان. وفي هذا، اثبت التاريخ الانساني ان السير نحو هذه الاطروحة سير تكاملي، تصاعدي، مستمر، مضطرد، من الممكن للباحث ان يتصور مستقبله البعيد. وهنا ياتي الامل كجزء من هذا التصور، بل كجزء من انسنة الحياة.
انسنة التاريخ
الاصل الاول ان اللغة متاحة لجميع من يعرفون التحدث بها. واللغة مؤلفة من كلمات ذات معاني، اما قصدية (كما يقول عالم سبيط النيلي) او اعتباطية (كما يقول سوسير).
الاصل الثاني، (كما يقول كلود ليفي شتراوس) ان الكلمات هي ادوات يتمتع الناس بحرية استخدامها لاي معنى بشرط ان يوضحوا مقاصدهم.
من هذا المنطلق ننظر الى استخدام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (١٩٣٦-٢٠٠١) لكلمة “انسنة” بالربط مع التاريخ، حيث صك مصطلح “انسنة التاريخ” في كتابه “ثورة الحسين” الصادر في اوائل السبعينات من القرن الماضي.فقد قال في ص ٢٢٣ (ط٧) من هذا الكتاب:”ضروري في مرحلتنا الثورية الراهنة انسنة التاريخ” بمعنى “جعله ذا صلة بحياة الانسان ومطامحه” و “اعداده ليندمج مع الكائن الانساني في تركيب عضوي متفاعل متكامل وليس مجرد انعكاس خاو لحياة انسانية سابقة”.
ولم يكن البعد الانساني بعيدا عن تفكير الشيخ شمس الدين، ففي عام ١٩٦٠ كتب افتتاحية من حلقتين لمجلة “الاضواء” النجفية التي كانت تصدر انذاك تحت عنوان “رسالتنا انسانية عالمية” قال فيها ان “انسانية” اي عقيدة تتحقق “حين يجد الانسان في رحابها المجالات التي تهيء لكافة طاقاته جميع فرص النمو والازدهار وتوازن بين كافة جوانبه”، مشترطا ان تعالج العقيدة “الواقع الانساني على اساس الاعتراف بالانسان كما هو، وكما خلقه الله من غير تحوير ، الاعتراف بكل طاقاته وكل حاجاته وكل كيانه المتطور وغير المتطور”. وهذا، كما هو واضح، اساس النظرة الواقعية للانسان.و بناء على هذا، اعتبر شمس الدين ان الاسلام دين انساني، لانه “يتجاوب مع الواقع الانساني بكل حاجاته ومطامحه”. ومن اجل توضيح واثبات هذه الدعوى تتبع شمس الدين موقف الاسلام ازاء اربع مسائل هي: الواقع الخارجي المحيط بالانسان، العقل، الحرية، التقدم ووجد في هذه المسائل ما يلي:
١. ان العالم الخارجي “مجال كفاح الانسان ونموه وتمدد قواه”، وان “عالم الطبيعة قد سخر للانسان”.
٢. ان الانسان “خليفة الله في الارض”.
٣. ان الغرائز الانسانية هي ” القوة الحيوية الدافعة التي تتلاشى بدونها الحركة، اي انها الشرط الداخلي للسلوك الانساني، وهي التي تسبغ على الحياة حركتها وتدفقها”.
٤. استخدام العقل شرط لكي يكتشف الانسان عالم الطبيعة وينتفع بها ولكي ينمي ذاته.
٥. الانسان كائن حر ومسؤول يتمتع بالعقل والقدرة على الاختيار والارادة.
٦. الانسان قادر على ان يطور حياته ويغنيها دوما بالجديد.
في وقت متزامن، او بعد هذا بقليل بدأ محمد اركون (في الستينات او حوالي ١٩٦٦ كما قال مترجم اعماله هاشم صالح) يكتب اطروحته للدكتوراه عن “نزعة الانسنة في الفكر العربي”. اركون كتب اطروحته باللغة الفرنسية، ونشرت عام ١٩٧٠ باللغة الفرنسية ايضا، ولم يستخدم كلمة الانسنة العربية بطبيعة الحال الى ان ترجمت الرسالة ونشرت عام ١٩٩٧.
ويعتقد اركون ان النزعة الانسانية قديمة في التاريخ الاسلامي ، او السياق الاسلامي، وانها وصلت الى قمة ازدهارها فيما بسميه العصر الكلاسيكي الاسلامي (القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي) او ما يسميه جيل مسكويه والتوحيدي وصولا الى ابن رشد (الممتد كما يقول من عام ٣٥٠ الى ٤٠٠ هجرية)، ثم انقرضت بعد ذلك.
اما السيد محمد حسين فضل الله، فقد قال عنه السيد جعفر فضل الله:”تكاد الأنسنة تكون لازمةً في خطاب السيّد فضل الله، بدءًا من أنسنة الدّين نفسه، وأنسنة العلاقة مع الله، وأنسنة النبوّة، وأنسنة الصِّراع بين قوى الخير والشرّ… من أنسنة العبادة، إلى أنسنة الأخلاق، إلى أنسنة التّشريع، وأنسنة العلاقات الاجتماعيَّة تحت عنوان الانفتاح الإنسانيّ، إلى أنسنة الحوار، وأنسنة التاريخ، حتى إنَّ السيد فضل الله تحدّث عن أنسنة الزمن..”
ثم كتب الصديق عبد الجبار الرفاعي كثيرا عن انسنة الدين او النزعة الانسانية في الدين.
وطرحت انا مصطلح “انسنة الحياة”، وقصدت به بناء الحياة بشكل يصون انسانية الانسان ويحفظ حقوقه وكرامته ومنزلته ويحقق له السعادة و يعترف بالانسان بوصفه “قيمة عليا لا يجوز المس بها او الاعتداء عليها”، بعبارات محمد اركون.
النزعة الانسانية في الثقافة العربية-الاسلامية
الحراك المجتمعي نحو #الدولة_الحضارية_الحديثة يمثل الوجه الثاني للمعركة ضد التخلف. والامران مرتبطان بتعميق النزعة الانسانية في المجتمع كما ذكرت في مناسبات سابقة. والرابط بين الامرين هو كون الانسان يحتل الموقع الاول في المركب الحضاري للمجتمع. والمركب الحضاري هو، من جهة اولى، العمود الفقري للحراك الحضاري، وهو من جهة ثانية، يمثل السبب الجوهري للتخلف اذا تعرض لاي خلل حاد. وهكذا تترابط ثلاثة عناوين فيما بينها ترابطا عضويا. والعناوين الثلاثة هي: الدولة الحضارية الحديثة، المعركة ضد التخلف، النزعة الانسانية في المجتمع. فكلما تعمقت هذه النزعة في ثقافة المجتمع وسلوكيات افراده كلما كان المجتمع قادرا على القضاء على التخلف واقامة دولته الحضارية الحديثة. والتجارب التاريخية الحضارية تقدم الادلة الملموسة على ما نقول. ويكفي ان نتذكر ان بدايات النهضة الاوروبية الحديثة التي انطلقت من مدن ايطاليا الشمالية بدات باعادة الاعتبار للانسان، وكرامته، وحريته، وسعادته، وحقوقه الخ. ومن هنا كتبت بعض المقالات والمنشورات هنا وفي مواقع التواصل الاجتماعي دعوت فيها الى فكرة عامة هي انسنة الحياة كشرط من شروط النهضة والقضاء على التخلف واقامة الدولة الحضارية الحديثة في العراق.
وقد تلقيت بعض الردود والنقاشات الممانعة والمعارضة لهذه الدعوة. ويكمن جوهر هذه الممانعة في الثنائية المانوية المسيطرة على بعض العقول والتي تفترض طرفين اثنين لكل فكرة. واذا انسحبت هذه الثنائية على فكرة الانسنة، وتم وصفها بالفكرة الليبرالية الغربية، فان ما سوف يقابلها ويعارضها هو الاسلام. وهكذا يوضع الاسلام في مقابل الانسنة او النزعة الانسانية، وكأن الاسلام لا يقر النزعة الانسانية، او كأن النزعة الانسانية فكرة غربية مستوردة كما كان يقال عن الديمقراطية. وهذا ما يحتم علينا ان نخوض معركة جانبية في اثبات ان النزعة الانسانية ليست غربية محضة، على الاقل.
وفي الحقيقة ان بوسع الباحث ان يعثر بسهوله على جذور النزعة الانسانية في القران الكريم، واحاديث النبي (ص) وكتابات مفكرين وعلماء مسلمين في عصور الاسلام الاولى.
قرانيا نجد العديد من الايات الكريمة التي تكرّم الانسان وتشيد به الى درجة الطلب من الملائكة السجود له، والتركيز على انه يحمل نفخة من روح الله واستخلافه في الارض ومنحه حق تقرير المصير وتقديس عمله والمساواة بين افراده وتسخير الكون له ..الخ.
وفهم المسلمون الاوائل هذه النزعة الانسانية في القران وكتبوا فيها ومن وحيها حتى وصلت ذروتها في القرن الرابع الهجري على يد المعتزلة وكتاب كبار امثال ابو حيان التوحيدي و مسكويه وابن رشد وغيرهما.
بل يقال ان هذه النزعة الانسانية انتقلت الى شمال ايطاليا وكانت البذرة الاولى لحركة النهضة هناك.
لكن استيلاء السلاجقة على الدولة العباسية عام ٤٢٩ هجرية، ١٠٣٨ ميلادية اجهض النزعة الانسانية في الثقافة العربية- الاسلامية. وكانت تلك بدايات الخلل في المركب الحضاري في المجتمع الاسلامي، والعراقي خاصة، والذي قاد الى سقوط بغداد بيد المغول سنة ١٢٥٨ لتبدأ القطيعة مع النزعة الانسانية ولتستمر قرونا مديدة حتى افاق العالم الاسلامي على وقع الاحتلالات الاوروبية الاستعمارية التوسعية وبخاصة الاحتلال الفرنسي لمصر على يد نابليون عام ١٧٩٨.
ان الدعوة الى انسنة الحياة ما هي الا دعوة الى مواصلة خط السير الذي انقطع، من جهة، والتواصل مع النزعة الانسانية العالمية الحديثة من جهة ثانية، من اجل ان تكون الانسنة قاعدة النضال الانساني ضد التخلف، وقاعدة الحراك الاجتماعي نحو الدولة الحضارية الحديثة، بشكل يعيد وصل مع انقطع مع الخصائص الانسانية في ثقافتنا، ويعزز تواصلنا مع الحضارة الانسانية في تعبيرها الراهن.